كان أهل مدين قوماً عرباً يسكنون مدينتهم "مدين" التي هي قريبة من أرض معان من أطراف الشام، مما يلي ناحية الحجاز قريباً من بحيرة قوم لوط، وكانوا بعدهم بمدة قريبة. ومدين قبيلة عرفت بهم المدينة، وهم من بني مدين بن مديان بن إبراهيم الخليل. وشعيب نبيهم هو ابن ميكيل بن يشجن، ذكره ابن إسحاق.
قال: ويقال له بالسريانية يترون، وفي هذا نظر، ويقال شعيب بن يشخر بن لاوي ابن يعقوب، ويقال: شعيب بن نويب بن عيفا بن مدين بن إبراهيم، ويقال: شعيب ابن ضيفور بن عيتا بن ثابت بن مدين بن إبراهيم، وقيل غير ذلك في نسبه. وقال ابن عساكر: ويقال جدته، ويقال أمه، بنت لوط. وكان ممن آمن بإبراهيم، وهاجر معه، ودخل معه دمشق.
وعن وهب بن منبه أنه قال: شعيب وملغم ممن آمن بإبراهيم يوم أحرق بالنار، وهاجر معه إلي الشام، فزوجهما بنتي لوط عليه السلام. ذكره ابن قتيبة. وفي هذا كله نظر أيضاً. والله أعلم.
وذكر عمر بن عبد البر في "الاستيعاب" في ترجمة سلمة بن سعدي العنتري: أنه قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم وانتسب إلي عنزة، فقال: "نعم الحي عنزة مبغي عليهم، منصورون، رهط شعيب وأختان موسى"
فلو صح هذا لدل على أن شعيباً صهر موسى، وأنه من قبيلة من العرب العاربة يقال لهم عنزة، لا أنهم من عنزة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان، فإن هؤلاء بعده بدهر طويل، والله أعلم. وفي حديث أبي ذر الذي في صحيح ابن حبان في ذكر الأنبياء والرسل قال: "أربعة من العرب: هود، وصالح، وشعيب، ونبيك يا أبا ذر".
وكان بعض السلف يسمي شعيباً خطيب الأنبياء، يعني لفصاحته وحلاوة عبارته وبلاغته في دعاية قومه إلي الإيمان برسالته.
وقد روى ابن إسحاق بن بشر عن جويبر ومقاتل، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكر شعبياً قال: "ذاك خطيب الأنبياء"
وكان أهل مدين كفاراً يقطعون السبيل ويخيفون المارة، ويعبدون الأيكة، وهي شجرة من الأيك حولها غيضة ملتفة بها. وكانوا من أسوأ الناس معاملة، يبخسون المكيال والميزان، ويطففون فيهما، يأخذون بالزائد، ويدفعون بالناقص.
فبعث الله فيهم رجلاً منهم وهو رسول الله شعيب عليه السلام، فدعاهم إلي عبادة الله وحده لا شريك له، ونهاهم عن تعاطي هذه الأفاعيل القبيحة من بخس الناس أشياءهم وإخافتهم لهم في سبلهم وطرقاتهم، فآمن به بعضهم وكفر أكثرهم، حتى أحل بهم الله البأس الشديد، وهو الولي الحميد.
كما قال تعالى:
{وإلى مدين أخاهم شعيباً، قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، قد جاءتكم بينة من ربكم} (سورة الأعراف:85)
أي: دلالة وحجة واضحة، وبرهان قاطع على صدق ما جئتكم به وأنه أرسلني، وهو ما أجرى الله على يديه من المعجزات التي لم تنقل إلينا تفصيلاً، وإن كان هذا اللفظ قد دل عليها إجمالاً.
{فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم في الأرض بعد إصلاحها} (سورة الأعراف:85)
أمرهم بالعدل ونهاهم عن الظلم، وتوعدهم على خلاف ذلك فقال:
{ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين * ولا تقعدوا بكل صراط}
أي: طريق.
{توعدون} (سورة الأعراف:85ـ86)
أي: تتوعدون الناس بأخذ أموالهم من مكوس وغير ذلك وتخيفون السبل. قال السدي في تفسيره عن الصحابه: (ولا تقعدون بكل صراط توعدون) أنهم كانوا يأخذون العشور من أموال المارة.
وقال إسحاق بن بشر بن الضحاك، عن ابن عباس قال: كانوا طغاة بغاة يجلسون على الطريق، يبخسون الناس؛ يعني يعشرونهم، وكانوا أول من سن ذلك.
{وتصدون عن سبيل الله من آمن وتبغونها عوجاً} (سورة الأعراف:86)
ذكرهم بنعمة الله تعالى عليهم في تكثيرهم بعد القلة، وحذرهم نقمة الله بهم إن خالفوا ما أرشدهم إليه ودلهم عليه. كما قال لهم في القصة الأخرى:
{ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخيرٍ وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط} (سورة هود:85)
أي: لا تركبوا ما أنتم عليه وتستمروا فيه، فيمحق الله بركة ما بأيديكم؛ ويفقركم ويذهب ما به يغنيكم. هذا مضاف إلي عذاب الآخرة، ومن جمع له هذا وهذا، فقد فاز بالصفقة الخاسرة!. فنهاهم أولاً عن تعاطي ما لا يليق من التطفيف، وحذرهم سلب نعمة الله عليهم في دنياهم، وعذابه الأليم في أخراهم، وعنفهم أشد تعنيف.
ثم قال لهم آمراً بعد ما كان عن ضده راجزاً:
{ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط، ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين * بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ} (سورة هود:85ـ86)
قال ابن عباس والحسن البصري: (بقية الله خير لكم) أي: رزق الله خير لكم من أخذ أموال الناس. وقال ابن جرير: ما فضل لكم من الربح بعد وفاء الكيل والميزان خير لكم من أخذ أموال الناس بالتطفيف، قال: وقد روي هذا عن ابن عباس.
وهذا الذي قاله وحكاه حسن، وهو شبيه بقوله تعالى:
{قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث} (سورة المائدة:100)
يعني: أن القليل من الحلال خير لكم من الكثير الحرام، فإن الحلال مبارك وإن قل، والحرام ممحوق وإن كثر. كما قال تعالى:
{يمحق الله الربا ويربي الصدقات} (سورة البقرة:276)
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الربا وإن فإن مصيره إلي قل". رواه احمد
أي: إلي قلة
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما"
والمقصود أن الربح الحلال مبارك فيه وإن قل، والحرام لا يجدي وإن كثر. ولهذا قال نبي الله شعيب:
{بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين} (سورة هود:86)
وقوله:
{وما أنا عليكم بحفيظ} (سورة هود:86)
أي: افعلوا ما آمركم به ابتغاء وجه الله ورجاء ثوابه، لا لأراكم أنا وغيري.
{قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء، إنك لأنت الحليم الرشيد} (سورة هود:87)
يقولون هذا على سبيل الاستهزاء والتنقص والتهكم: أصلاتك هذه التي تصليها؛ هي الآمرة لك بأن تحجر علينا فلا نعبد إلا إلهك؟ ونترك ما يعبد آباؤنا الأقدمون وأسلافا الأولون؟ أو أنا لا نتعامل إلا على الوجه الذي ترتضيه أنت، ونترك المعاملات التي تأباها إن كنا نحن نرضاها؟.
(إنك لأنت الحليم الرشيد) قال ابن عباس وميمون بن مهران وابن جريج وزيد ابن أسلم وابن جرير: يقولون ذلك أعداء الله على سبيل الاستهزاء.
{قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقاً حسناً، وما أريد أن أخالفكم إلي ما أنهاكم عنه، إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب} (سورة هود:88)
هذا تلطف معهم في العبارة، ودعوة إلي الحق بأبين إشارة. يقول لهم: (أرأيتم) أيها المكذبون (إن كنتم على بينة من ربي) أي: على أمر من الله تعالى أنه أرسلني إليكم (ورزقني منه رزقاً حسناً) يعني: النبوة والرسالة، يعني وعمى عليكم معرفتها، فأي حيلة لي بكم؟. وهذا كما تقدم عن نوح عليه السلام أنه قال لقومه سواء.
وقوله: (وما أريد أن أخالفكم إلي ما أنهاكم عنه) أي: ليست آمركم بالأمر إلا وأنا أول فاعل له، وإذا نهيتكم عن الشيء فأنا أول من يتركه. وهذه هي الصفة المحمودة العظيمة، وضدها هي المردودة الذميمة، كما تلبس بها علماء بني إسرائيل في آخر زمنهم، وخطباؤهم الجاهلون. قال الله تعالى:
{أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون} (سورة البقرة:44)
وذكرنا عندها في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يؤتي بالرجل فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه ـ أي: تخرج أمعاؤه من بطنه ـ فيدور بها كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع أهل النار فيقولون: يا فلان ما لك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى: كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه"