وهذه صفة مخالفي الأنبياء من الفجار والأشقياء، فأما السادة من النجباء، والألباء من العلماء، الذين يخشون ربهم بالغيب، فحالهم كما قال نبي الله شعيب: (وما أريد أن أخالفكم إلي ما أنهاكم عنه، إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت) أي: ما أريد في جميع أمري إلا الإصلاح في الفعال والمقال بجهدي وطاقتي.
(وما توفيقي) أي: في جميع أحوالي (إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب) أي: عليه أتوكل في سائر الأمور، وإليه مرجعي ومصيري في كل أمري. هذا مقام ترغيب. ثم انتقل إلي نوع من الترهيب فقال:
{ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوحٍ أو قوم هودٍ أو قوم صالح، وما قوم لوط منكم ببعيد} (سورة هود:89)
أي: لا تحملنكم مخالفتي ما جئتكم به على الاستمرار على ضلالكم وجهلكم ومخالفتكم، فيحل الله بكم من العذاب والنكال، نظير ما أحله بنظرائكم وأشباهكم؛ من قوم نوح وقوم هود وقوم صالح من المكذبين المخالفين.
وقوله: (وما قوم لوط منكم ببعيد)، قيل معناه: في الزمان، أي: ما بالعهد من قدم؛ مما بلغكم ما أحل بهم على كفرهم وعتوهم، وقيل معناه: وما هم منكم ببعيد في المحلة الكبرى. وقيل: في الصفات والأفعال المستقبحات؛ من قطع الطريق، وأخذ أموال الناس جهرة وخفية بأنواع الحيل والشبهات. والجمع بين هذه الأقوال ممكن؛ فإنهم لم يكونوا بعيدين لا زماناً ولا مكاناً ولا صفات.
ثم مزج الترهيب بالترغيب فقال:
{واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود} (سورة هود:90)
أي: أقلعوا عما أنتم فيه، وتوبوا إلي ربكم الرحيم الودود، فإنه من تاب إليه تاب عليه، فإنه (رحيم) بعباده، أرحم بهم من الوالدة بولدها، (ودود) وهو المجيب ولو بعد التوبة على عبده، ولو من الموبقات العظام.
{قالوا يا شعيب ما نفقه كثيراً مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفاً} (سورة هود:91)
روي عن ابن عباس وسعيد بن جبير والثوري أنهم قالوا: كان ضرير البصر. وقد روي في حديث مرفوع: "أنه بكى من حب الله حتى عمي، فرد الله عليه بصره، وقال: يا شعيب أتبكي خوفاً من النار؟ أو من شوقك إلي الجنة؟ فقال: بلى من محبتك، فإذا نظرت إليك فلا أبالي ماذا يصنع بي، فأوحى الله إليه: هنيئاً لك يا شعيب لقائي، فلذلك أخدمتك موسى بن عمران كليمي".
رواه الواحدي عن أبي الفتح محمد بن علي الكوفي، عن علي بن الحسن بن بندار، عن أبي عبد الله محمد بن إسحاق الرملي، عن هشام بن عمار، عن إسماعيل بن عياش، عن يحيى بن سعيد، عن شداد بن أوس، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه. وهو غريب جداً، وقد ضعفه الخطيب البغدادي.
وقولهم:
{ولولا رهطك لرجمناك، وما أنت علينا بعزيزٍ} (سورة هود:91)
وهذا من كفرهم البليغ، وعنادهم الشنيع، حيث قالوا:
{وما نفقه كثيراً مما تقول} (سورة هود:91)
أي: ما نفهمه ولا نعقله، لأنا لا نحبه ولا نريده، وليس لنا همة إليه، ولا إقبال عليه. وهو كما قال كفار قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
{وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا حجاب فاعمل إننا عاملون} (سورة فصلت:50)
وقولهم: (وإنا لنراك فينا ضعيفاً) أي: مضطهداً مهجوراً، (ولولا رهطك) أي: قبيلتك وعشيرتك فينا (لرجمناك وما أنت علينا بعزيز).
{قال يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله} (سورة هود:92)
أي: تخافون قبيلتي وعشيرتي وترعونني بسببهم، ولا تخافون جنب الله، ولا تراعوني لأني رسول الله؟ فصار رهطي أعز عليكم من الله
{واتخذتموه وراءكم ظهرياً} (سورة هود:92)
أي: جعلتم جانب الله وراء ظهوركم
{إن ربي بما تعلمون محيط} (سورة هود:92)
أي: هو عليم بما تعلمونه وما تصنعونه، محيط بذلك كله، وسيجزيكم عليه يوم ترجعون إليه.
{ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل، سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب، وارتقبوا إني معكم رقيب} (سورة هود:93)
هذا أمر تهديد شديد ووعيد أكيد، بأن يستمروا على طريقتهم ومنهجهم وشاكلتهم، فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار، ومن يحل عليه الهلاك والبوار (من يأتيه عذاب يخزيه) أي: في هذه الحياة الدنيا (ويحل عليه عذاب مقيم) أي: في الآخرة (ومن هو كاذب) أي: مني ومنكم فيما أخبر وبشر وحذر. (وارتقبوا إني معكم رقيب) هذا كقوله:
{وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به، وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا حتى يحكم الله بيننا، وهو خير الحاكمين} (سورة الأعراف:87)
{قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا، قال أو لو كنا كارهين * قد افترينا على الله كذباً إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها، وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا، وسع ربنا كل شيء علماً، على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين} (سورة الأعراف:88ـ89)
طلبوا بزعمهم أن يردوا من آمن منهم إلي ملتهم، فانتصب شعيب للمحاجة عن قومه فقال: (أو لو كنا كارهين؟) أي: هؤلاء لا يعودون إليكم اختياراً، وإنما يعودون إليكم ـ إن عادوا ـ اضطراراً مكرهين؛ وذلك لأن الإيمان إذا خالطته بشاشة القلوب لا يسخطه أحد، ولا يرتد أحد عنه، ولا محيد لأحد منه.
ولهذا قال:
{قد افترينا على الله كذبا إن عنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها، وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا، وسع ربنا كل شيء علماً على الله توكلنا} (سورة الأعراف:89)
أي: فهو كافينا، وهو العاصم لنا، وإليه ملجأنا في جميع أمرنا. ثم استفتح على قومه، واستنصر ربه عليهم في تعجيل ما يستحقونه إليهم فقال:
{ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين} (سورة الأعراف:89)
أي: الحاكمين، فدعا عليهم، والله لا يرد دعاء رسله إذا استنصروه على الذين جحدوه ومع هذا صمموا على ما هم عليه مشتملون، وبه متلبسون:
{وقال الملأ الذين كفروا من قومه لئن اتبعتم شعيباً إنكم إذاً لخاسرون} (سورة الأعراف:90)
قال الله تعالى:
{فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين} (سورة الأعراف:91)
ذكر في سورة الأعراف أنهم أخذتهم رجفة، أي: رجفت بهم أرضهم، وزلزلت زلزالاً شديداً أزهقت أرواحهم من أجسادهم، وصيرت حيوانات أرضهم كجمادها، وأصبحت جثثهم جاثية؛ لا أرواح فيها، ولا حركات بها، ولا حواس لها.
وقد جمع الله عليهم أنواعاً من العقوبات، وصنوفاً من المثلات، وأشكالاً من البليات، وذلك لما اتصفوا به من قبيح الصفات، وسلط الله عليهم رجفة شديدة أسكنت الحركات، وصيحة عظيمة أخمدت الأصوات، وظلة أرسل عليهم منها شرر النار من سائر أرجائها والجهات.
ولكن تعالى أخبر عنهم في كل سورة بما يناسب سياقها ويوافق طباقها؛ في سياق قصة الأعراف أرجفوا بنبي الله وأصحابه، وتوعدوهم بالإخراج من قريتهم، أو ليعودون في ملتهم راجعين. فقال تعالى:
{فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين} (سورة الأعراف:91)
فقابل الإرجاف بالرجفة، والإخافة بالخيفة، وهذا مناسب لهذا السياق ومتعلق بما تقدمه من السياق.
وأما في سورة هود؛ فذكر أنهم أخذتهم الصيحة في ديارهم جاثمين، وذلك لأنهم قالوا لنبي الله على سبيل التهكم والاستهزاء والتنقص:
{أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا وأن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد} (سورة هود:87)
فناسبان يذكر الصيحة التي هي كالزجر عن تعاطي هذا الكلام القبيح الذي واجهوا به هذا الرسول الكريم الأمين الفصيح، فجاءتهم صيحة أسكتتهم مع رجفة أسكتنهم.